التضليل الإعلامي- أساليب الأمن المصري في إلهاء الشعب عن قضاياه المصيرية

دأبت التقاليد الأمنية المصرية العتيقة على تشتيت انتباه الرأي العام بقضايا هامشية، وذلك للتغطية على قرارات سياسية مصيرية أو مواقف حساسة تمس صميم مصالح الشعب ومستقبل حياته. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك قضية الممثلة "ميمي شكيب" الشهيرة، التي اتُهمت بإدارة منزلها لأغراض منافية للآداب العامة. اللافت في الأمر أن هذه القضية تفجرت في خضم صراع محتدم بين "رجال السادات" و"رجال عبدالناصر"، مما يثير الشكوك حول دوافع إثارتها في ذلك التوقيت الحساس.
لم تتردد الصحف المصرية الموجهة من قبل "مباحث الصحافة" وأجهزة أمن الدولة الأخرى في تضخيم القصة وتهويلها، مضيفة إليها الكثير من التوابل والإثارة. سرعان ما انشغل المواطنون بحكاية الفنانة التي عرفوها من خلال عشرات الأفلام، متناسين القضايا السياسية الملحة. ونجحت الخطة الأمنية في إلهاء الناس وإبعادهم عن الكلام في السياسة. وفي وقت لاحق، عُثر على جثة "ميمي شكيب" ملقاة في أحد شوارع القاهرة، مما أثار موجة جديدة من الثرثرة والتأويلات.
غضب طلاب الأزهر
بعد مرور سنوات، وتحديدًا في عهد "حسني مبارك"، لجأ "الفيلسوف الأمني" الحاكم إلى نفس الأسلوب، مع تغيير الأسماء فقط. هذه المرة، كانت الحكاية تدور حول اثنتين من الممثلات، هما حنان ترك ووفاء عامر، وتكرر الاتهام القديم بالطعن في السمعة والأخلاق. انشغل الناس مجددًا بهذه القضية، وتم تحقيق الهدف المنشود، حيث نجت "الحكومة" من المساءلة والمحاسبة حول قضايا جوهرية مثل بيع القطاع العام وارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى حوادث القتل العمد للمواطنين في الصعيد وهدم المنازل على ساكنيها بحجة "مطاردة الإرهابيين".
ولما يئس "الفيلسوف الأمني الخفي" من تكرار قصة "الفنانة العارية"، قرر أن يغير استراتيجيته، فاستبدل "الفنانة" بالصحفي والباحث والروائي. وهكذا، عايشنا وعاش الشارع المصري بأكمله تفاصيل رواية "وليمة لأعشاب البحر"، التي فجَّرها كاتب مغمور ومأجور على صفحات جريدة "الشعب". تتناول الرواية قصة حل الحزب الشيوعي العراقي، وكاتبها هو "حيدر حيدر" سوري الجنسية. كانت جريمته التي لا تغتفر هي طباعة الرواية وعرضها في السوق المصرية.
لكن حكومة مبارك ورجال أمنها الأشاوس وجدوا في الرواية فرصة ذهبية لشغل الناس عن القضايا الأكثر أهمية. إلا أن الأمور أفلتت من يد الفيلسوف الأمني، وخرجت مظاهرات صاخبة لطلبة جامعة الأزهر، الذين غضبوا لدينهم وعقيدتهم، بسبب ما كتبه "حيدر حيدر" على لسان شخصية في الرواية لا تؤمن بالأديان السماوية. الكاتب الجهبذ الذي أشعل النار بهذه العبارات اقتطع ما قاله "الملحد"، وفتح صدره وصرخ على طريقة "يوسف وهبي"، وهو يقول في عنوان كبير "من يبايعني على الموت؟"
استجاب الشُبَّان الأزهريون لدعوة الرجل، وقرروا مبايعته على الموت في سبيل الله. وعلى الجانب الآخر، سعى رئيس جامعة الأزهر، الفاسد الأكبر "مازال على قيد الحياة"، إلى امتصاص غضب الطلبة، فأرغى وأزبد، وكفَّر الكاتب. ووجدت صحافة اليسار الحكومي الفرصة سانحة لاستعراض عضلاتها الديمقراطية، واحتشد المثقفون في "أتيلييه القاهرة"، وعقدوا اجتماعًا حاشدًا للدفاع عن حقّ المبدعين في الإبداع، وكان رئيس الاجتماع هو "محمود أمين العالم"، الناقد الشيوعي الذي عرف سجون عبدالناصر وعاش سنوات المصالحة بين الناصريين والشيوعيين، وحصل على منصبين كبيرين في الصحافة والمسرح. وفي نهاية المطاف، نسي الناس الرواية، واستفاد "حيدر حيدر" وأصبح نجمًا لامعًا على صفحات الصحف المصرية والعربية.
ومن بين الشيوخ المشهورين في إثارة الجدل وشَغْل الناس، يبرز الشيخ السلفي "يوسف البدري"، الذي تخصص في مطاردة أفيشات الأفلام. لديه قضية شهيرة تتعلق بفيلم "أبي فوق الشجرة"، وهو فيلم قديم من إنتاج سبعينيات القرن الماضي. لم يرق للشيخ مشهد "عبدالحليم حافظ" وهو يقبل الممثلة "نادية لطفي"، لكن اعتراضه جاء متأخرًا بعد عشرين عامًا.
"اللهو الخفي"
شاء الجهاز الأمني الذكي أن "يحرق" الشيخ، فأرسل إليه صحفيًا "حلمي النمنم وزير الثقافة فيما بعد"، وأجرى معه حديثًا صحفيًا كشف فيه الشيخ عن هوايته للتمثيل، وأنه كان يتمنى أن يكون فنانًا يصفق له الجمهور على خشبة المسرح. التقط "إبراهيم سعدة" رئيس تحرير أخبار اليوم الحديث الصحفي المثير وأعاد نشره في صحيفته، بعد نشره في مجلة "المُصوَّر"، في تنسيق ناجح بين جناحين من أجنحة أمن النظام.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أضيفت أسماء جديدة "من الكتبة المأجورين" إلى قائمة "اللهو الخفي" التي تعمل تحت قيادة "الفيلسوف الأمني". هذه المرة، انتقلت اللعبة من "الأدب" والسينما إلى الأديان السماوية، والثوابت الوطنية، والتواريخ القومية، والمعارك التي خاضتها الأمة العربية والإسلامية ضد أعدائها. وذلك وفقًا للنظرية القديمة الأميركية المصدر، وهي "قسمة الناس على اثنتين" أو بمعنى آخر، إثارة الناس بالحديث عن الحوادث الخلافية، وطرح الأفكار التي تثير الجدل والانقسام في المجتمع.
أول من استخدم هذه النظرية هو الصحفي "مصطفى أمين"، الذي أرسل رسالة من واشنطن إلى أخيه التوأم "علي أمين" أثناء تأسيس "أخبار اليوم"، اقترح فيها عناوين لحملات صحفية من النوع الذي يثير الجدل ويقسم الناس إلى معسكرين، مثل "هل توافق على زواج المسلمة من مسيحي؟" وهكذا.
لكن الجيل التالي، الذي ظهر منذ أواخر عصر "مبارك"، واستُخدمت رموزه من "الصحفيين" والباحثين في الجامعات في عمليات قذرة تهدف إلى التشكيك في شخصية "صلاح الدين الأيوبي" واتهامه بالدموية وقتل رموز الفكر، رغم أنه استقرّ في وجدان الشعوب العربية والإسلامية كبطل تصدى للحملات الصليبية واسترد "بيت المقدس".
عميل مأجور
وصل الأمر بأحدهم "وهو من صبيان جهاز أمن الدولة والمخابرات الأميركية حاليًا" إلى التشكيك في واقعة "9 سبتمبر/أيلول 1881"، التي احتشد فيها الجيش المصري الوطني بقيادة "أحمد عرابي"، وبحضور الآلاف من الفلاحين وسكان القاهرة، لتقديم مذكرة إلى "الخِديو توفيق". هذه الواقعة منحت "عرابي" زعامة شعبية، وفرضت عليه الحرب ضد جيش بريطانيا العظمى. والبقية معروفة وموثقة في كتب التاريخ ومئات من رسائل الماجستير والدكتوراه في مصر وخارجها.
بلغ حب المواطنين الذين عاصروا "الثورة العرابية" حد اعتبار "عرابي" "أمير المؤمنين" وحامي الديار، لكن الصحفي المأجور خرج على الناس لينفي ذلك، ويقول: إن "عرابي" لم يقف أمام "الخِديو" ولم يقل قوله المأثور: "لقد خلقنا الله أحرارًا"، رغم أن عرابي كان متعلمًا، درس في الأزهر الشريف، وكان يقرأ الكتب، وقال في مذكراته: إنه قرأ كتابًا عن حروب نابليون أهداه إليه "الخِديو سعيد"، وكان أيضًا يحفظ القرآن الكريم منذ طفولته.
لم يتوقف هذا الصبي الأمني "العميل الصهيوني" المأجور عند هذا الحد، بل تعداه إلى الخوض في أعراض أمَّهات المؤمنين والصحابة، والطعن في ثوابت العقيدة الإسلامية. هذا الصبي الذي يعمل لصالح "المسيحية الصهيونية" أصبح من ذوي القصور في مصر وخارجها، وهو المولود في مدينة صغيرة في الدلتا، لرجل كان من صغار الموظفين في وزارة التربية والتعليم.
أما الصبي الآخر، وهو "أستاذ جامعي" ثبتت عليه جريمة "سرقة البحوث العلمية" في جامعة الإسكندرية وأدين بحكم قضائي، فإنه يلعب ذات اللعبة مع إسرائيل مباشرة من دون وسطاء. سمعته في تسجيل صوتي له يقول: "طُلِب مِنّا أن نقول إنّ المسجد الأقصى الحالي لا يخصّ المسلمين وليس هو المذكور في القرآن".
هذا الباحث السارق سرق رواية مشهورة في أوروبا ونال عنها جائزة كبرى منذ سنوات. وكان آخر ما شغل به هذا السارق مجتمع المثقفين في مصر هو ما قاله منذ أيام قليلة عن "طه حسين". وابتلع المثقفون الطُّعم الأمني وانبروا للدفاع عن عميد الأدب العربي الذي مات منذ خمسين سنة، تاركين القضايا الجوهرية التي تخُصّ مستقبل "الدولة المصرية"، التي تسعى "الرأسمالية العالمية" بقيادة أميركا إلى تفكيكها وتفكيك كل الدول في الوطن العربي بإثارة الحروب الأهلية وخلق المليشيات التي تعمل ضد الجيوش النظامية، ومستقبل الحرب الدائرة في "غزة"، وهي حرب مصرية بامتياز.
لكنَّ "الكتَبة المأجورين" قاموا بعملهم الدنيء، وشغلوا الناس بما يضرُّهم ولا ينفعهم. وكل هؤلاء سوف يلعنهم اللاعنون ويهانون ويحاسبون على ما اقترفوه من جرائم في حق الوطن والشعب. وإنّ غدًا لناظره قريب.
